المركز التأسيسي/الدراسات/مراحل عملية الإصلاح التشريعي

مراحل عملية الإصلاح التشريعي

2024/10/12
د/ عبد الوهاب عبد القدوس الوشلي

التشـريع السليم يحدد سياسات الدولة وأهدافها العليـا والفرعية، كما أنه ينـشئ الوزارات والهيئات والمؤسسات العامة التي تطبق التشريع ولابد من تعديل التشـريع عندما تكتشف فيه أي ثغرات أو تعارض في أحكامه. ولا شك في أن الحاجة ماسة إلى وجود تشـريعات إدارية هادفة تواكب التطورات الادارية الحديثة في العالم المتقدم تتناول جميع نشاطات الدولة بما في ذلك التغيير في المفاهيم والقيم والاتجاهات والتصرفات وفي الأخذ بعناصر الإدارة الحديثة.

أن عملية الإصلاح القانوني (التشـريعي) عادة لا تسير بسلاسة، بحيث لا يمكن أن تثير أية خلافات بل العكس صحيح، فهذه العملية وما تنطوي عليه من إعادة ترتيب للأولويات التشـريعية، وتطوير للأفكار القانونية، وما تجريه من تعديل في كثير من المفاهيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لا يتصور أن تلقى إجماعًا تامًا حتى بين أولئك القائمين على هذه العمليـة. حيث أن أي تغير تشـريعي وإداري لابد وأن يهدد بعض المصالح المهمـة وأن الكـل يأمل بأن يتحمـل الآخرون ما يفرضه من ثمن، حتى ولو لم يذهب ذلك التغيير إلى ما يتعدى ويقتضي تكـوين الأمـة السريع، وتسـتدعيه التنميـة الاجتماعية والاقتصادية[1].

هذه العملية هامة تحتاج إلى عمل منظم دقيق وفق معايـير فنية بمستوى عالٍ من الجودة في عملية الإصلاح القانوني للإدارة العامة، حيث يتوجب في هذا الشأن ما يلي:

  1. في المرحلة الأولى: تحديد الجهة التي ستقوم بالإصلاحات القانونية للإدارة العامة بهدف الترشيق، في عمليـة الإصلاح القانـوني لإعداد مشـروع لإصدار أو دمج أو الغاء أو تعديل القانـون بهـدف التحـديث والتطوير، مراعين الاختصاص الدستوري بإنشاء وإلغاء المرافق العامة، والسلطة المختصة للتشريع، ثم..
  2. في المرحلة الثانية: نتبع الاجراءات الفنية لإعداد مشـروع القانون وفق الأصول والمعايير العلمية المتعارف عليها دوليًا.
  3. في المرحلة الثالثة: نذهب إلى الإجراءات الدستورية لإصدار القانون، نعلم أن مهمة البرلمان في الدولة (أي دولة ومنها اليمن) تتمثل في شقين رئيسين هما: اصدار التـشـريعات، والرقابة على أعمال الحكومـة، هذا الاختصاص الأصيل تضمنه الدستور اليمني بالمادة 62: مجلس النواب هو السلطة التشـريعية للـدولة وهو الذي يقرر القوانين ويقر السياسة العامة للدولة والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والموازنة العامة والحساب الختامي، كما يمارس التوجيه والرقابة على أعمال الهيئة التنفيذية على الوجه المبين في هذا الدستور. حيث أن القاعدة القانونية يجب أن تحترم وتسود ويتم العمل بها حتى تلغى أو تعدل بنفس الطريقة التي نشأت بها.

نتطرق هنا إلى الثلاث المراحل اللازمة لمسألة الإصلاح القانوني هي:

أ‌- تحديد الجهة المعنية بالإصلاح التشريعي:

تختلف الأنظمـة المقـارنة فيمـا يتعـلق بتحـديد الجهـات القائمـة على عمليـة الإصلاح التشـريعي، والنموذجان الأكثر شيوعًا هما النموذج الكلاسيكي الذي يعتمد على إنشاء كيان مستقل للإصلاح التشـريعي بموجـب تشـريع، والنمـوذج الآخـر هو النمـوذج المؤسـسي الذي يتجسد في كيان مستقل أنشأته اتفاقية معينة من بعض القامات القانونية وأصحاب المصالح. وبعض الأنظمة تعهد بمهمة الإصلاح التشـريعي لوزارة معينة يغلب أن تكون وزارة العدل، أو لمستوى رفيع داخل البناء القضائي، أو للجنة تؤلف لغرض معين، أو لشخص ما بصفته، للإدلاء بالرأي في موضوع معين، ثم رفع التوصيات إلى الوزير المختص.

عادة في اليمن عند الرغبة لإنشاء أو تعديل قانون قائم، يقوم الحزب السياسي أو الوزير المختص لوزارة معينة، بتكليف أحد موظفيه أو اثنين أو ثلاثة بإعداد مشـروع قانون أو تعديله، وغالبًا ما يكون هؤلاء الأشخاص من غير ذوي التخصص اللازم، الذين يجهلون متطلبات وخطوات اعداد مشـروع قانون، ومن تجربتي الشخصية ومشاهدتي أذكر واقعتين على سبيل المثال لا الحصر:

  • تشـريعات التعليم العالي والبحث العلمي: قبل أعوام صدر قرار وزير التعليم العالي رقم (7) لسنة 2020م بتشكيل لجنة لمراجعة وتحديث تشـريعات التعليم العالي (مجموعة القوانين واللوائح العديدة للتعليم العالي والبحث العلمي)، وكنت أحد أعضاء اللجنة، وبدأت اللجنة عملها واضعة في الاعتبار تحديث منظومة تشـريعية للمصلحة الوطنية والاجيال القادمة، دون أدنى اعتبار لمصالح وسلطات الوزير (أي وزير الحالي أو القادم)، ويبدو أن أحد من أعضاء اللجنة العاملين بالوزارة ذهب لينقل له ما يدور أثناء عمل اللجنة، فتم الغاء اللجنة بمبرر عدم وجود اعتمادات عمل اللجنة. حيث أن قانون التعليم العالي السابق تم تفصيله على مقاس الوزير والوزارة التي سلبت اختصاصات وصلاحيات الجامعات اليمنية الحكومية بقانون الجامعات، ومنحها للوزير والوزارة بقانون التعليم العالي اللاحق.
  • قانون التأمين الطبي لموظفي الدولة: قبل حوالي 13 سنة ذهبت لزيارة صديق وقت المقيل كما هي عادتنا في اليمن، ووجدت لديه 2 من زملاء عمله، وبعد التعارف عرفت أنهما منهمكين في اعداد مشـروع قانون التأمين الطبي لموظفي الدولة، باركت عملهما وسألت الله لهما السداد، وسألتهما هل أنتم جزء من لجنة كبيرة كلفت لإعداد مشـروع القانون، فكان ردهما مفاجئًا حيث أجابا نحن كل اللجنة بحسب ما كلفنا الوزير وسيأخذ المشـروع منا ويعرضه على مجلس النواب لإقراره!

يتضح هنا أن كثير من القوانين في اليمن اعدت من دون اتباع الخطوات اللازمة المتعارف عليها لإعداد مشـروع قـانون، وأهملت كافة المعايير اللازمة المعمول بها في كل الدول لإعداد مشـروع القانون أي قانون، خصوصًا إذا علمنا أن 60% من أعضاء مجلس النواب - البرلمان اليمني - لا يحملون شهادة رسمية (جامعية) بل أن عدد منهم لا يقرأ أو يكتب، ولا يتبع البرلمان مركز قانوني متخصص يحتضن عدد من علماء وخبراء القانون لتغطية هذا الاختـلال الكبـير في العملية التشـريعية بالمجلـس. فكيف سيكون المنتوج للقوانين[2]. وهنا يتوجب معرفة الجهة الدستورية والقانونية الموكلة بإنشاء وتعديل وإلغاء المرافق العامة[3] وقوانينها[4]:

حق إنشاء المرافق العامة:

يدور هذا الحق بين السلطتين التشـريعية والتنفيذية. ويجري هذا الاختلاف بين شراح القانون حول من السلطتين أولى بهذا الحق، ويرجع هذا الاختلاف إلى صلة المرافق العامة بمجالات النشاط الفردية، فلا شك أن المرافق العامة قد تعيق نشاط الأفراد، خصوصًا إذا كانت هذه المرافق ذات صبغة اقتصادية أو كانت تتضمن احتكار للدولة، حيث يمتنع على الأفراد ممارسة النشاط الذي يدخل في اختصاص المرافق الاحتكارية. أما إذا لم تكن المرافق العامة احتكارية، فإنه لا يمتنع على الأفراد ممارسة نفس النشاط الذي تقوم به المرافق العامة، ولأنها تتمتع بامتيازات استثنائية لا يتمتع بها الأفراد من شأنها تقوية جانب المرافق العامة.

وبناءً على الاعتبارات السابقة يرى بعض الشُّـراح أن حق إنشاء المرافق العامة ينبغي أن يُناط بالسلطة التشـريعية باعتبـارها الأمينـة على حقوق وحريـات الأفراد، وهي لن تُنـشئ من المرافق إلا ما يحقق مصلحة الأفراد، لا ما يقيد حقوقهم وحرياتهم، ومن ثم فإن أداة إنشاء المرافق العامة وفقًا لهذا الاتجاه هو القانون ليس إلا. ويرى جانب آخر من الشـراح أن السلطة التنفيذية أولى بهذا الحق من السلطة التشـريعية، وذلك اعتمادًا على الحاجات العامة التي تقتـضي إنشاء مرافق عامة لإشباعها. ومن ثم فإن هذا الاتجاه يرى من الأجدر إنشاء المرافق العامة بقرارات لا بقوانين.

ومع ذلك فإنه لم يغفل اعتبارات الاتجاه الأول، فأورد على مذهبه استثناء مفاده أنه إذا كانت المرافق العامة لها صلة مباشرة بحقوق وحريات الأفراد كالمرافق الاحتكارية التي تقيد الحرية الاقتصادية، فإن السلطة التشـريعية هي الأولى بمثل هذا الحق، والاتجاهات السابقة هي مجرد آراء فقيه، بيد أن الكلمة النهائية تكون عادة للدساتير. وبالرجوع إلى بعض الدساتير نجد أن الدستور الفـرنسي الصـادر سنة 1958م قد جعل حق إنشاء المرافق العامة للسلطة التنفيذية، كما أن الدستور المصري الصادر سنة 1971م جعل هذا الحق لرئيس الجمهورية.

أما دستور الجمهورية اليمنية فقد أخذ بمنطق الاتجاه الفقهي الثاني بتفضيلاته، فقد منع الدستور إنشاء المرافق التي تقوم على إمتياز إلا بالقانون، يتضح ذلك من نص المادة 18 من الدستور التي تنص على: (عقد الامتيازات المتعلقة باستغلال موارد الثروة الطبيعية والمرافق العامة لا يتم إلا بقانون).

أما بقية المرافق قد جُعل الحق بإنشائها لرئيس الجمهورية، يتضح ذلك من نص المادة 120 من الدستور، التي جعلت من اختصاص رئيس الجمهورية إصدار القرارات واللوائح اللازمة لتنظيم المصالح والإدارات العامة، وقد أكد القرار الجمهوري بالقانون رقم 35 لسنة 1991م بشأن الهيئات والمؤسسات والشـركات العامـة هذا الحـق مُناط برئيس الجمهورية، حيث جعل له سلطة إنشاء الهيئات والمؤسسات العامة.

فقد نصت المادة السابعة منه على أن (تنشأ الهيئة العامة المشمولة بأحكام هذا القانون بقرار جمهوري بعد موافقة مجلس الوزراء، بناءً على عرض الوزير المختص، وتلك الإدارة مرفق عام، مما يقوم على مصلحة أو خدمة عامة)، كما نصت المادة 21 على أن (تنشأ المشمولة بأحكام هذا القانون بقرار جمهوري بعد موافقة مجلس الوزراء).

ويلاحظ أنه إلى جانب المرافق العامـة القوميـة التي تتمتـع بالشخصية الاعتبـارية هناك المرافق المحلية وهي تلك التي تتبع الأشخاص اللامركزية المحلية كالمحافظات والمديريات، والغالب أن يكون لهذه الأشخاص حق الإنشـاء للمرافق العامـة المحليـة، بمقتـضى نصـوص قانونيـة تسمـح بذلك، مثل المدارس والمستوصفات المحلية ومرافق النقل الداخلي.

الغاء المرافق العامة:

لا تبقى المرافق العامة قائمة إلى الأبد، فالحاجات العامة للأفراد تتطور من وقت لآخر. ومن ثم فإن السلطـة المختصـة قد ترى أن الحاجات التي أنشئ المرافق العام لإشباعها قد انتهت أو أنه من الأفضل ترك إشباعها للفرد نفسه، وفي هذه الحالة وأثنائها تعمد السلطة المختصة إلى إلغاء المرافق العامة.

فالمرفق العام الذي أنشئ بمقتـضى قانـون لا يجـوز إلغاؤه إلا بقانون مثله والمرفق العام الذي أنشئ بقرار يجوز إلغاؤه بقرار مثله، كما يجوز إلغاؤه بقانون باعتبـار أن الأداة التشـريعية أعلى مرتبـة من الأداة الإدارية، وإلغاء المرفق العام لا يعني بالضرورة تصفيته نهائيًا فالإلغاء يظهر في صورتين:

  1. الصورة الأولى: وفيها يلغى المرفق العام فتزول اختصاصاته وتصفى أمواله وينقل عماله إلى مرافق أخرى ويزول كل أثر قانوني لهذا المرفق.
  2. الصورة الثانية: وفيه تسحب فقط الصورة العامة للمرافق فتلغى الشخصية الاعتبارية العامة التي يتمتع بها، ويتحول إلى شخص اعتباري من أشخاص قانون الخاص، تطبق عليه قوانين خاصه، ويخضع للقضاء العادي ففي هذه الحالة وإن كان المرفق لم يزل نهائيًا من الوجود ألا أنه سحب من مجال المرافق العامة فاعتبر ذلك بالنسبة لهذا المجال الغاء.

ولما كانت المصلحة العامة هي أساس إنشاء المرافق العامة فإن المصلحة العامة ينبغي أن تكون أيضًا أسـاس الغاء المرافـق العامـة. إلا أن تـقـضـي تحقق المصلحة العامة أو انتفائها متروك لترخص السلطة المختصة دون معقب عليها.

ومن ثم لا يجوز الاحتجاج على الغاء المرفق العام بدعـوى وجـود حقـوق مكتسـبة تـقـتـضي استمرار المرفق. فأدوات الغاء المرفق العام سواءً كانت تشـريعية أو تنفيذية هي عبارة عن قواعد عامة مجردة لا ترتب بذاتها حقوقًا مكتسبة كالقرارات الفردية ومن ثم لا يجوز الاعتراض عليها[5].

توفر الإرادة السياسية الداعمة:

توفر شروط الإرادة السياسية الفاعلة في مجال الإصلاح القانوني في مرحلتين: الأولى؛ إنشاء الجهة المختصة لعملية الإصلاح القانوني للإدارة العامة بهدف ترشـيق وإصـدار تشـريع أو قرار بإنشاء وتوفر الموارد والتسهيلات اللازمة لحركتها في أداء العمل. والثانية؛ يتمخض عمل الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشـريعي عن توصيات بتغيير التشريع. وللقول بأن عملية الإصلاح التشـريعي قد اكتملت لا بد أن تجد هذه التوصيات مجالًا للتطبيق، من خلال تبني العملية التشـريعية لمخرجاتها ومرئياتها، وبالنظر إلى أنه في غالبية النظم القانونية تقوم الحكومة بإعداد الأجندة التشـريعية، فإن نجاح أي عملية إصلاح تشـريعي مبـني على مـدى استـعداد الحكومـة لتبـني توصيـات الجهـة القائمـة على الإصلاح التشـريعي. وبالنسبة للنموذج الكلاسيكي، فإن هذه التوصيات ستكون موجهة للحكومة.

وبمجرد أن تتبنى الحكومة هذه التوصيات، ستأخذ الأخيرة مسارها داخل البرلمان، جنبًا إلى جنب مع المـشروعات المقدمـة من الحكومـة. وهذه المـشروعات ذات مصـادر متنوعـة، فبعضهـا يتعلق بالوعود الانتخابية التي قطعها الحزب الحاكم على نفسه أثناء الانتخابات، وبعضها يتعلق بما دعت إليه بعض الأصوات الحزبية النافذة ومجموعات المصالح، أو ما يراه الوزراء من أولويـات الوزارة، أو ما تطـرأ به الظـروف في البرلمـان «السلطة التشريعية» وفقًا لما تضمنـه الدستور.

وهكذا، فأمام توصيات الجهات القائمة على الإصلاح التشـريعي مهمة صعبة لكسب اهتمام الحكومة بالأولوية على المصادر الأخرى، آخـذًا في الاعتبـار ضيـق وقت العمـل التشـريعي، والخلاف حول الأولويات. ولكن على كل حال ينبغي أن تتكاتف الجهود استهدافًا لتحقيق الصالح العام في جميع الاتجاهات.

محددات الجهة الموكل لها الإصلاح القانوني:

قد يعتقد البعض أن وزارة الشؤون القانونية وشؤون مجلس النواب، تمارس مهامها الأصلية في مساعدة المجلس في وظيفته الأصلية المتمثلة في إصدار التـشـريعات، لكن الواقع أن الوزارة غير مؤهلة لذلك بدليل الوضع التشـريعي القائم اليوم، وما يعتريه من قصور واختلال. وثمة حاجة لإنشاء جهة مستقلة تضطلع بعملية الإصلاح التشـريعي. بعبارة أخرى، لما تنطوي هذه العملية على صعوبات فنية خاصة تجعل من تحديد جهة مستقلة تختص بهذه العملية ضرورة لا يجب الالتفات عنها وفقًا لما يلي[6]:

1/الخبرة المتخصصة:

يمتاز العمـل بجهـات متخصصـة تقوم على شؤون الإصلاح التشـريعي بميزة نوعية كبيرة، ألا وهي إيجاد بيت خبرة داخلي متخصص في شؤون الإصلاح التشـريعي، يضم بين جنباته مجموعة من المتخصصين ذوي المعرفة القانونية. فضلًا عن أن وجود هذه الجهات يتيح إيجاد قنوات اتصال مع كثير من المعنيين بإصلاح المنظومـة التشريعيـة، من القانونيين أو غيرهم من المهتمين بإصـلاح بعض التـشـريعات ذات الصلة بمجالات خبرتهم التخصصية، أو أصحاب المصالح من غير المتصلين بمراكز صناعة التشـريع، فهؤلاء على وجه الخصوص يتعذر عليهم التواصل مع الدوائر التشـريعية المختلفة، هنا تبرز أهمية جهات الإصلاح التشـريعي المتخصصة، التي تستقبل هؤلاء، وتسمع لتوصياتهم، لتدرسها، وترفعها - إن ارتأت وجاهتها - للحكومة بعد إفراغها في القالب القانوني، تمهيدًا لعرضها على المشرّع.

وكذلك فجهات الإصلاح التشـريعي تملك استدعاء المتخصصين في مجالاتهم، وضمهم لتشكيلها، للاستفادة من خبراتهم، بما يساعد في النهاية على إخراج منتوج تشـريعي متكامل، من الناحيتين القانونية والفنية في مختلف المجالات.

2/ تركيز الجهد وتحديد الهدف:

لا شك أن اختصاص جهة معينة بمهمة إصلاح المنظومة التشـريعية يحقق ميزة نوعية كبيرة تتمثل في تركيز الجهود في اتجاه تحقيق هدف واحد، بعيدًا عن تضارب الأولويات الذي غالبًا ما يترتب على ترك هذه المهمة لجهة أخرى تقوم بأدوار أنشأت خصيصًا لأجل القيام بها، بحيث يصعب مع هذه الأدوار أن تتفرغ هذه الجهة للقيام بمهام إضافية كمهمـة الإصلاح التشـريعي. التي تستهدف المصلحة الوطنية وتجويد الإدارة العامة بعيدًا عن التجاذبات الحزبية والمصالح الطبقية. فضلًا عن أن اختصاص جهة معينة بمهمة الإصلاح التشـريعي يمتاز بتركيز مواردها صوب هذه المهمة، وهي المهمة التي تتطلب القيام ببعض الترتيبات وتدبير اللوجستيات التي تحتاج موارد مالية، كاستقدام الخبراء والأساتذة، وإجراء الإحصاءات، وتحليل البيانات، والقيام بدراسات الأثر التشـريعي وكما عَبَّر «اللورد جاردينر» عند تقديمه لمشـروع قانون إنشاء اللجنة المختصة بالإصلاح التشـريعي في بريطانيا: (إذ أردت لعمل ما أن يتم إنجازه، فلا بد من أن تحدد شخصًا تكون مهمته الأساسية إنجاز هذا العمل).

- الاستمرارية

لا شك أن إنشاء كيان يختص بعملية الإصلاح التشـريعي، مع ما يفترضه ذلك من استمرارية وجوده، يقود في النهاية إلى تبني مشروع طويل الأمد لإصـلاح المنظومـة التـشريعية، ذلك الإصلاح الذي لا يمكن القيام به على فترات قصيرة، أو ربطه بمبادرات متقطعة أو وقتية. وإيجاد هذا الكيان يساهم بشكل كبير في الحفاظ على استمرار وتدفق عملية الإصلاح التشـريعي دون توقف قد يترتب عليه الحاجة لفترات إنتقالية بين كل مشـروع لإصلاح المنظومة التشريعية وآخر، وهي النتيجة التي يتسبب فيها عدم وجود كيان دائم يتبني مشـروع واحد تتكامل حلقاته، وإن تغير أشخاص القائمين عليه.

- الاستقلالية

تعد استقلالية الجهة القائمة على عملية الإصلاح التـشريعية ضرورة للوصول لإصلاح تـشريعي حقيقي. ولا يراد بهذه الاستقلالية عدم التدخل في عمل هذه الجهة من جانب الحكومة فقط، بل كذلك يتعين أن تكون هذه الجهة بمعزل عن أي ضغوط قد تمارس عليها من أي كيان قضائي أو حتى مجموعات المصالح النافذة سياسيًا. والسبب واضح، فهذه اللجنة لا تمارس السياسة، وما تقوم به من مهام يكون له طبيعة فنية بحتة، فضلًا عن أن الحكومة ليست مضطرة للقبول بتوصيات اللجنة.

وإذا كان الأمر على هذا النحو، فمن مصلحة جميع الأطراف، ومن بينهم الحكومة، ترك المجال لهذه الجهة لممارسة عملها الفني بشكل مستقل، بعيدًا عن صخب الرأي العام أو توازنات السياسة. بل إن هذه الخصيصة هي التي تجعل من هذه الجهة محل ثقة الجميع، بداية من الحكومة، وأصحاب المصالح، والمجتمع المدني، وانتهاءً بالمواطنين. فالجميع سيكون على ثقة تامة بأن هناك جهة ما تقوم بدورها في جعـل المنظومـة التشـريعية أكثر تكاملًا، حتى تعبر فعلًا عما يصيب المجتمع من تطور، وما يفرضه الواقع من متغيرات، وهو ما يعطي لما يتمخض عن عملها من توصيات ثقلًا ومصداقية لدى الجميع.

ومن حق الحكومة أن ترفض توصيات الجهة القائمة على الإصلاح التشـريعي في خصوص موضوع ما لاعتبارات معينة، لكن العامل الحاسم في استقلالية هذه الجهة، هو أنه حال الطلب من هذه الجهة الرأي في موضوع معين، ينبغي أن تنحسر محاولات التدخل في عملها.

ويعد إنشاء الجهة القائمة على عملية الإصـلاح التـشـريعي بقانون ضمـانة أسـاسية ضد أي محاولة للتدخل في عملها. غير أنه من وجه آخر، يجب أن تكون الجهة القائمـة على الإصلاح التـشـريعي - كأي جهة عامة - محلًا للمساءلة عن مواردها وأوجه إنفاقها، وعن كونها تعمل في فلك قانون إنشاءها.

إطار عمل الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي القانوني

تمـارس الجهـات القائمـة على عمليـة الإصلاح التـشريعي عملها وفق مجموعة من المُحددات، منها نص إنشائها، وعلاقتها بغيرها من الجهات ذات الصـلة بعمليـة الإصـلاح التشــريعي، وآلية اختيار الموضوعات التي تكون محلًا لعملية الإصلاح التشـريعي، ومعايير هذا الاختيار، فضلًا عن التطورات المعاصرة التي تُباشر في ظلها هذه العملية.

ويمكن القول بأن النصوص القانونية التي تنظم الجهات القائمة على عمليات الإصلاح التشـريعي تكون على قدر كبير من المرونة والاتساع، وهذا يشكل أول تحدٍ يقابل هذه الجهة، بعبارة أخرى، ينبغي إيجاد آلية لتنظيم عمل هذه الجهة في ضوء محدودية مواردها بأفضل شكل ممكن.

1/ نطاق النص المنظم لعمل الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي

عادةً ما يعهد النص القانوني المنظم لعمل الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشـريعي بتكليف عام؛ هو إصـلاح المنظومـة التشـريعية ونقلهـا للأفضـل. ولأول وهلـة يمكن فهم أن هذه هي النية الأصلية لواضعي هذا النص، لكن هذا التصور لا يحول أبدًا دون وضع أولويات لعمل هذه الجهة، بحيث يتم تنظيم هذا العمل وفقًا للظروف التي تجد هذه الجهة نفسها فيها. وبصفة عامة يوجد نوعان من المهام التي قد تقوم بها الجهة القائمـة على عمليـات الإصلاح التشـريعي، أولهما: المهام المحددة قصيرة المدة، وثانيهما: مشـروعات الإصلاح التشـريعي طويلة الأجل. ويفضل ألا يقتصـر عمل هذه الجهة على نوع واحد من المهام، بل يجب أن يتنوع عملها بينهما.

  • المهام المحددة قصيرة المدة:
    قد يكشف واقع العمل عن عوار أو خلل تشـريعي في تنظيم مسألة معينة، هنا تتدخل الجهة القائمة على الإصلاح التشـريعي لرأب هذا الصدع في بناء التنظيم التشـريعي بالنسبة لهذه المسألة بعينها، وهو تدخل يتسم بالتحديد والسرعة لعلاج هذه المشكلة فورًا ووضع أنسب الحلول لها.
  • مشروعات الإصلاح التشريعي طويلة الأجل
    إلى جانب التدخلات السـريعة لإصلاح وجه من أوجه القصور التشـريعي في مسـألة معينـة، تقوم الجهات القائمة على عمليـة الإصلاح التشـريعي، وبالنظر للمـرونة التي تصـاغ بها نصوص إنشائها، بتبني مشـروعات طويلة الأجل للإصلاح التشـريعي، الهدف منها إصـلاح المنظومـة التشـريعية ككل، وليس في موضوع بعينه أو لمواجهة مشكلة محددة. وهذه المشـروعات الشاملة تستهدف - كما سبق ذكره - إصلاح أو تحسـين مادة التـشـريع، وهو ما يتطلب مراجعة البناء التشـريعي ككل، وتخليته من التنظيمات البالية والمهجورة، وتوحيده من الناحية الشكلية بضم التشـريعات ذات الصلة في قانون موحد وشامل، إلى جانب توحيده من الناحية الموضوعية (أي تقنينه)، وذلك بصَبّه في قالب قانوني متماسك ومترابط في ظل فلسفة تشـريعيـة متجانسة، كل ذلك في إطار من التطوير اللازم.

ورغم التحـديات السابقة، إلا أن ثمـة أسبـاب تدعـو إلى تبني مثل هذه المشـروعات طويلة الأجل، كاشتراط بعض المنظمات الإقليمية للانضمام لعضويتها القيام بإصلاح تشـريعي شامل، أو التحولات التي تطرأ على الأنظمة الدستورية داخل البلدان النامية، التي تستدعي القيام بإصـلاح تشريعي شامل كيما تعكس المنظـومة التشريعية التوجهات الدستورية المستحدثة. فضلًا عن أنه لا يمكن تجاوز حقيقة أن مرونة النصوص القانونية المنشئة للجهات القائمة على عمليات الإصلاح التشـريعي تفرض على هذه الجهات أن تنوع جهدها بين القيام بالإصلاحات التشـريعية الطـارئة، فضلًا عن تبني مشـروعات شاملة ترتقي بالمنظومة التشريعية ككل.

2/ طبيعة العلاقة بين الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي

قد تجد الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشـريعي نفسها في حاجة إلى التواصل مع جهات أخرى في سبيل أداء ما أنيط بها من مهام. وهذا التواصل قد يفرضه النص القانوني المُنشأ لهذه الجهة، وقد تقدر أهميته هذه الجهة من تلقاء نفسها. ففي كثير من الأحوال تجد الأخيرة نفسها في مسيس الحاجة إلى التواصل مع جهات أخرى ذات صلة بعملية الإصلاح التشـريعي بدرجة أو أخرى، تنظيمًا للجهد وتبادلًا للخبرات، ولضمان توحيد مسار الإصلاح التشـريعي في إطار من التوافق والتعاون.

وفـوق ما تقـدم، قد ترى الجهـة القائمـة على عمليـة الإصلاح التشـريعي ثمة حاجة للتواصل مع منظمات المجتمع المدني ومفوضيات حقوق الإنسان العاملة داخل الإطار القانوني المعترف به.

وعلاوة على ذلك، قد يعهـد القانـون بعمليـة الإصلاح التشـريعي في مجـالات بعينهـا لجهـات معينـة كالوزارات أو المؤسسات المسؤولة عن حمـاية البيئـة أو الصحـة، هنا قد تتراجـع الجهـة القائمـة على عمليـة الإصلاح التشـريعي خطـوة أو خطـوتين للوراء، تقـديرًا منهـا أفضليـة ترك المجال لهذه الجهات امتثالًا لأمر القانون، رغم أن لها اختصاص عام بعملية الإصلاح التشـريعي. وفي المقابل قد ترى هذه الجهات التعاون مع الجهة ذات الاختصاص الأصيل بعملية الإصلاح التشـريعي. وبشكل عام طالما أن الهدف المشترك هو الارتقاء بجودة التشـريع، فكل تعاون مخلص يحقق هذا الغرض يجب أن يكون محل تقدير واعتبار من كل الأطراف المعنية بالعمل التشريعي.

ب‌- الاجراءات الفنية للإصلاح التشريعي:

الاجراءات التمهيدية لإصدار قانون:

قبل اتخاذ الاجراءات الدستورية لإصدار القانون أو تعديله أو إلغائه، يتوجب أن نتخذ إجراءات وخطوات فنية سابقة ومن معايير عالية المستوى ومعتمدة، تتوقف عليها نجاح العمليـة التشـريعية من عدمه، وباختصار شديد: بمجموعة من الخطوات وهي الخطوة التمهيدية: بتحديد المشكلة التي سنعمل على حلها، ثم الخطوة الأولى: بجمع المعلومات اللازمة، ثم الخطوة الثانية: مرحلة التشاور ثم الخطوة الثالثة: بوضع السياسات ثم الخطوة الرابعة: بإعداد مشروع القانون نوجزها بالآتي:

  1. نقوم بعملية مسح لتشريعات القطـاع المـراد تحديث وتطويـر قوانينه بعد وضع جوانب الاختلالات في أدائه وجوانب القصور بتنفيذ مهامه، ثم اقتراح تعديل القوانين والأنظمة التي تحتاج إلى تعديل من أجل تحديث الإدارة لتواكـب عجلـة التطـوير الإداري اللازم، ونعقد ورش وندوات للمتخصصين حول هذا القانون والخروج بتوصيات بالاستفادة من جهود بعض الخبراء القانونيين، العاملين مثلًا في المجال الأكاديمي، لمعاونة الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشـريعي في إجراء هذه الأبحاث المقارنة وإدارة الورش واللقاءات العلمية والعملية وتوجيهها.
  2. ثم نأتي بممثلين ممن سيطبقون القانون ومجموعة ممن سيطبق عليهم القانون، ومجموعة ممن لهم علاقة بهذا القانون، ونجمعهم على طاولة واحدة ونطلعهم على الأدبيات والسياسات والمحددات العامة، ونطلب منهم أن يتحاوروا ويكتبوا ماذا يريدوا من هذا القانون المزمع إعداد مشـروعه وما يأملون أن يتضمن عند صدوره، ثم نجمع كل ما كتبوه.
  3. نأتي بلجنة قانونية من أكاديميين وقضاة ومحامون، نطلب منهم اخراج هذه الطلبات والرؤى إلى نصوص قانونية متوازنة بجناحين حقوق وواجبات. متناسقة مع الأهداف العامة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية... الخ، كون التشـريع هو الأسـاس الذي يوضـح العـلاقات القانونية بين أطراف العلاقة، ويحدد الحقوق والواجبات والمسؤوليات بأسلوب تراعى فيه الدقة والوضوح والشمول وحسن التبويب والانجاز غير المخل وعدم تحميل نصوصه عبارات وكلمات أكثر مما تحتمل لكيلا تتعرض للاجتهادات المتباينة في التفسير وتكون أيضًا عرضة لتعديلات متلاحقة لا حصر لها.
  4. نشكل لجنة صياغة اخيرة للقانون تتضمن خبراء قانون وخبراء لغة ونطلب منهم صياغة نهائية للقانون ليخرج بشكل متوازن، بجناحين متوازنين، مثل: تناسب الحقوق والواجبات، وتناسب السلطة مع المسؤولية حيث لا يجوز بحال من الأحوال تجاوز تحميل الموظف المسؤولية على قدر السلطة. مسترشدين بفلسفة وأهداف وأبعاد وآثار القانون في الجانب الاقتصادي والاجتماعي... الخ وفلسفة وهدف كل نص.
  5. نأخذ مـشروع القـانون ونبـدأ بالإجـراءات الدسـتورية المتعـارف عليهـا المحـددة حصـرًا بالدسـتور لإصـداره وولادتـه وخروجـه للحيـاة بنفـاذه.
  6. سيخرج القانون بشكل أفضل، وسيكون تطبيقه سهل على من سيطبقه لأنه استوعب كافة طلباتهم، وسيتقبل من سيطبق عليهم القانون تطبيقه عليهم بصدر رحب، لأنه تضمن كافة ملاحظاتهم وآمالهم، وسيستطيع المحيط المساعدة في تطبيقه وإنفاذه لأن القانون أخذ بما وضعوه من ملاحظات وآراء.

بهذا نتجنب ما تصـدره الدولة من تشـريعات قاصـرة مختـلة عرجـاء مثل قانـون المرور كله عقوبات فقط دون وجود حقوق للسائق، أو قانون المالك والمستأجر لم تشارك الأطراف في وضعه، أو قانون المرافعات والتنفيذ المدني الذي لم يشارك المحامون في وضعه... وغيرها من القوانين، التي تحدث اشكالات عند تطبيقها ونضطر لتعديلها مرات ومرات.

تتخلل هذه الخطوات السابقة عدد من الإجراءات الفنية المعمول بها دوليًا وفقًا لما يلي:

آلية عمل الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي[7]

إحدى محددات عمل الجهة القائمة على عملية الإصلاح التـشريعي هو ما إذا كانت هذه الجهة تعمل تبعًا لبرامج عمل بناءً على نص إنشائها، حيث تقوم بإعداد خطط تنظم عملها خلال مدة معينة. أو وفقًا لإحالات ترد لها من جهات أخرى، كالوزارات المعنية مثلًا.

وبشكل عام لا يمكن - بشكل مسبق - وضع إطار زمني محدد لإنجاز مشـروع إصلاح تشـريعي معين، فذلك يرتبط بتوافر الموارد، ودرجة تعقيـد المشـروع من الناحية الفنية، ومدى حاجة الحكومـة لإنجاز هذا المشـروع في ظرف زمني ضيق. وعلى أية حال فالجهات القائمة على الإصلاح التشـريعي التي تعمل بنظام برامج العمل تحتاج لدورة زمنية تتراوح ما بين ثلاث وخمس سنوات. وأحيانًا يتم ربط إنجاز برنامج العمل بمدة بقاء أغلبية أعضاء هذه الجهة في مواقعهم.

تحديد أولويات اختيار موضوعات الإصلاح التشريعي

ثمـة معـايير تحـكم اختيـار موضـوع الإصلاح التشـريعي، أي التنظـيم القـانوني الذي ترد عليـه عمليـة الإصلاح التشـريعي. منها أهميـة هذا الموضوع، فتزداد أهمية تدخل الجهة القائمة على الإصلاح التشـريعي بالقدر الذي يكون معه تنظيم قانوني معين غير مرضِ، وكذا بالقدر الذي تتعاظم معه المنافع المترتبة على هذا الإصلاح. مثلًا في مجال المـوارد البشـرية للقطـاع العام أي الخدمة المدنية.

كما أن حصول تطورات تقنية أو علمية معينة في مجال ما قد يضفي على موضوع معين أهمية خاصة، تكسبه أولوية ليكون محلًا لجهود الإصلاح التـشريعي، لمواكبة هذه التطورات المتسارعة، كما في مجال تكنولوجيات التواصل والجرائم الإلكترونية والذكاء الاصطناعي وجهود رقمنة الجهاز الإداري للدولة وسياسات الشمول المالي.

كذلك فملاءمة تدخل الجهـة القائمـة على عملية الإصلاح التشـريعي يعد أحد المعايير التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار؛ إذ يجب دائمًا النظر فيما إذا كان ترك مهمة الإصلاح التشـريعي في خصوص مسألة ما لجهة فنية لا تقوم بموازنات سياسة أمرًا ملائمًا من عدمه.

وكذلك فموارد الجهة القائمة على عملية الإصـلاح التشـريعي وخبرة أعضـائها ومعاونيهم من الباحثين القانونيين أمر يجب أن يكون دائمًـا تحت بصر هذه الجهـة قبل الشروع في تبني برنامج إصلاح تشريعي في موضوع معين.

منهج عمل الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي [8]

يبدأ عمل الجهة القائمـة على الإصـلاح التـشريعي بمرحـلة ما قبل التشاور وأخذ الرأي وهي المرحلة التي تقوم هذه الجهة من خلال أعضائها بإعداد الأبحاث اللازمة وصياغة نتائج هذه الأبحاث في ورقة أو أوراق تلخيصية تمهيدًا للانتقال للمرحلة اللاحقة وهي مرحلة التشاور حول هذه النتائج.

1/ الورقة التلخيصية:

تجدر الإشارة إلى أن الكيفية التي تبدو عليه هذه الورقة التلخيصية تختلف بحسب المدة التي أتيحت للقيام بالبحث المطلوب، ومدى توافر المصادر، وطريقة إنشاء الجهة القائمة على عملية الإصلاح التـشريعي؛ فبالقدر الذي يتنوع فيه إطار البحث الذي تقوم به الجهة القائمة على الإصلاح التشـريعي ونطاق أصحاب المصالح وتعقيد المسألة موضوع عملية الإصلاح، سيختلف شكل هذه الورقة. إلا أنه على كل حال فإن هذه الورقة تعتبر أول طرح متبلور لهذا الموضوع أثناء عملية الإصلاح التشريعي.

وأيًا كانت التسمية التي تطلق على هذه الورقة وأيًا كان الهدف منها الذي تعكسه هذه التسمية، فإنه من الأهمية بمكان أن يرَاعَى الجمهور المستهدف بهذه الورقة، فعملية التشاور - التي تقع في القلب من عملية الإصلاح التشـريعي - تعتمد على هذه الورقة التلخيصيـة، ومن ثم يجب صياغتها بحرفية شديدة بحيث تتناول المسألة المطروحة للإصلاح بشكل محدد وبلغة واضحة، فضلًا عن ضرورة إتاحتها أمام الجميع.

2/ البحث القانوني:

لا شك أن البحث القانوني يعتبر أساس مرحلة التشاور التي تعد جوهر عملية الإصلاح التشـريعي. ومن ثَمَّ فنجاح هذه العملية يرتبط إرتباطًا وثيقة بإجراء بحث قانوني محكم ودقيق. ولا شك أن طريقة إجراء هذا البحث ومنهجيته ستعتمد بشكل كبير على الجهة القائمة عليه، والوقت المتاح، وموضوعه.

ويمكن القول بأن دوافع الإصلاح التـشريعي متنوعـة، منهـا زيـادة الكفـاءة والفعاليـة فيما يخص الموضوع محل البحث، أو القيام بإصلاح تقني معين، أو التعاطي مع تغير الأفكار والمواقف داخل المجتمع، أو الامتثال للالتزامات الدولية، أو التجاوب مع التطورات الاقتصادية والتكنولوجية، أو الاستجابة للتحولات الدستورية داخليًا.

وبلا شك فطبيعة البحث القانوني الذي تحتاجه عملية الإصلاح التشـريعي سيتأثر بطبيعة الأهداف المرجوة. ولذلك فعملية الإصـلاح التـشريعي ليس محض بحث أكاديمي نظري، بل لها طابع عملي، غايته تطوير القانون وعصرنته.

وقد ساعد التطور التكنولوجي الحاصل في السنوات الأخيرة على تيسير البحث القانوني الذي تجريه الجهات المعنيـة بالإصلاح التشـريعي، بل إنه يمكن القول بأن وفرة المصادر البحثية القانونية بكثرة في الآونة الأخيرة زادت من حاجة هذه الجهات إلى بذل قدر أكبر من العناية أثناء إجراء البحث القانوني، إذ أصبح ضروريًا التأكد من صحة هذه المصادر قبل الأخذ منها أو النقل عنها.

وللقيام بالبحث القانوني المشار إليه لا بد للباحث من أن يضع يده على آخر ما وصل إليه التنظيم التشـريعي للموضـوع محل عمليـة الإصلاح التشـريعي، وكذا تحـديد المشـكلات القائمـة، والتصـورات عن الحلـول الممكنـة. وفهم كل ذلك يقتـضي في كثير من الأحيان البحث في نواحٍ تاريخية، تتعلق بظروف نشأة التـشريع ومراحـل تطـوره ودوافـع هذا التطـور. كما ينبغي التحقق من الحالة النهائية للتـشريع، ومعرفة المعدل منه والملغي.

أيضًا لا بد لإتمـام هذا البحـث القـانوني - على خير وجـه - من النظـر ليـس فقط في القواعـد القانونيـة بمفهومها الفني الصادرة عن السـلطة التشريعية، بل ينبغي أيضًا البحث فيما وراء ذلك، سواءً في اللوائح أو القـرارات ذات الصـلة بالتـشريع موضـوع عمليـة الإصلاح. فالمنظومـة التشريعيـة بناء متكامـل لا يمكن إصلاحها إلا بعد الاطلاع على مكوناتها المرتبطة.

ولا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه أحكام القضاء أثناء عملية البحث القانوني، فأمام الباحث القانوني فرصة عظيمة لتكوين فكرة دقيقة عن المشكلات التشـريعية في موضوع معين بالاطلاع على أحكام القضاء في هذا الموضوع. فأحكام القضاء هي المجال العملي الذي تبرز فيه أوجه القصور التـشريعي بكل وضوح. فالحكم القضائي يفسـر النص التـشريعي ويـشرحه ويطبقه ويعلق عليه أحيانًا. بل إن بعض القضاة يحرصون في أحكامهم على لفت انتباه المشـرع إلى عوار تشريعي معين، ويهيبون به التدخل لمعالجة هذا الخلل.

وقد يحتاج الباحث مراجعة مضابط جلسات البرلمان، وتقارير اللجان البرلمانية، والأوراق الوزارية، وتقارير لجان تقصي الحقـائق، وبعض الكتب غير القانونيـة، أو حتى الصحف والجرائد اليومية.

وقد يجد الباحث القانوني ضالته بالبحث في النظم القانونية المقارنة، للاستفادة من خبرات الآخـرين ومعـرفة كيـف عالـج المشـرع موضوع بعينه، والبحث في إمكانية تطبيق الحلول التي قدمتها النظم القانونية الأخرى في خصوص هذا الموضوع، مع مراعاة خصوصية كل نظام قانوني، والإطار الدستوري والنسق الاجتماعي الذي تباشر فيه الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي عملها.

3/ جمع الأبحاث المساعدة في مجالات غير قانونية

قـد تجـد الجهـة القائمـة على عمليـة الإصلاح التـشريعي نفسها في حاجة إلى إجراء أبحاث علمية أو تجريبية في مجالات وتخصصات أخرى، من أجل سبر أغوار مسائل تتعلق بهذه التخصصات التي يتدخل المشرع لينظمها بقواعد قانونية عامة مجردة.

وإحدى صور هذه الأبحاث غير القانونية ذات الأهمية بالنسبة لعملية الإصـلاح التشـريعي، القيام بتحليل العائد والكلفة بالنسبة لمشروعات الإصلاح التشريعي.

4/ التواصل مع أصحاب المصالح:

من الأمور بالغة الأهمية في هذه المرحلة من مراحل عملية الإصلاح التشـريعي التواصل مع أصحاب المصالح، إذ يمكن الاستفادة منهم أثناء مرحلة البحث المبدئي في المسائل موضوع الإصلاح التشريعي.

وعلاوة على ذلك، فالدفع بأصحاب المصالح في هذه المرحلة الأولية من عملية الإصلاح التشـريعي، يساعد كثـيرًا في إشراكهم بعد ذلك في مرحلة التشاور، فكثير من هؤلاء - من غير القانونيين - ربما لا يدري أصـلًا بوجـود جهـة قائمـة على عمليـة الإصلاح التشـريعي، ومن ثم فاسـتدعاء هؤلاء في مرحلـة مبكـرة وجعلهم جزءًا من عملية البحث يعين كثيرًا على الاستفادة منهم فيما بعد في مرحلة التشاور الأكثر أهمية.

كمـا أن ذلك يساعد الجهـات القائمـة على عمليـة الإصلاح التشـريعي في التعرف إلى الآثار العمليـة للتشـريعـات، وهو جانـب يخفى على كثـير من القانونيين المعنيين بعملية الإصلاح التشريعي.

ولكن من جانب آخر ينبغي الحذر في التجاوب مع مواقف أصحاب المصالح؛ إذ ليس لديهم معرفة كافية بالإطار التنظيمي الذي تعمل فيه الجهات القائمة على عملية الإصلاح التـشريعي، كما أن لديهم أهداف خاصة، وقد يترتب على إفساح المجال لهم الانزلاق لمصالح ضيقة أو التلون بلون سياسي معين، وهي أمور لا تناسب الطابع الفني غير السياسي الذي يصطبغ به عمل هذه الجهات.

5/ مخرجات عملية البحث

بمجرد الفراغ من تجميع المواد والبيانات اللازمة للقيام بعمليات البحث والدراسة السابقة، تبدأ عملية التحليل القانوني، للوصول لمقترحات وخيارات تشـريعية يمكن إفراغها في الورقة التلخيصية التي تشكل الصورة النهائية للمسألة موضوع الإصلاح التشـريعي، بحيث يبين منها - بوضوح وإيجاز - أوجه القصور التي دعت الجهة القائمة على الإصلاح التشـريعي للتدخل، وكذلك التصورات التشـريعية الممكنة لعلاج هذا القصور، تمهيدًا للمرحلة الآتية من مراحل عملية الإصلاح التشريعي وهي مرحلة التشاور.

6/ مرحلة التشاور

على الرغم من أن عملية الإصلاح التشـريعي تتضمن القيام بكثير من المهام التي قد لا تحتاج التشاور، مثل القيام بالتوحيد الشكلي للتـشريعات، أو تقديم المشورة للوزارات في خصوص بعض الأمور، إلا أن مرحلة التشـاور تظل هي جوهر عمـل الإصلاح التـشريعي. ويمكن استظهار ثلاثة أهداف لعملية التشاور:

– التشاور حق لا يمكن إنكاره أو الانتقاص من أطرافه، والتشاور - وجوهره إشراك الجمهور في الشؤون العامة - هو الذي يميز دولة القانون في النظام الديمقراطي، ويدمغ عملية صنع القرار بها بالشفافية المطلوبة. وهذا التشاور يعني منح المواطنين ممن سيطبق القانون عليهم فرصة أن يكون لهم كلمة في عملية صناعة القانون، فوق دورهم الطبيعي كناخبين.

– على الصعيد العملي، يقدم التشاور مزيد من المعلومات ومزيد من الرؤى مما يساعد على إنجاح الإصلاح التشـريعي. فالإصلاح التشـريعي لا يستهدف تحسين مادة التشـريع في صورته المجردة، بل يضع في اعتباره مساره التطبيقي في الواقع العملي. وتجدر الإشارة إلى أن التعرف إلى مواقف معارضي الإصلاح بالذات له أهمية خاصة؛ فالتعرف إلى هذه المواقف بهدف الوصول لحلول وسط حول نقاط الخلاف يساعد على الوصول لنتائج تزداد فرص تبنيها مستقبلًا.

– التشاور يعزز من سمعة الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشـريعي، ويزيد من الثقة فيها من جانب المسؤولين والوزراء ورجال البرلمان، بما يزيد من فعالية أنشطتها في الأخير.

7/ مرحلة صنع السياسات

ما إن تنتهي عملية التشاور، فإنه على الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشـريعي وضع اللمسات الأخيرة على ما ستقوم برفعه من توصيات، بعد أن يكون قد تبلور لديها نتائج ومخرجات عملية التشاور. وفي بعض الأحيان لا يحتاج الأمر القيام بمزيد من العمل، وفي أحيان أخرى قد يتطلب الأمر القيام بتحليل إضافي للنتائج والمخرجات المشار إليها.

فبالنسبـة لبعض المشـروعات، فإن المخرجـات المكتـوبة التي تمخضـت عن عمليـة التشـاور تمثل خلاصة المطلوب، بالذات في بعض المسائل الفنية المحددة، وفي هذا الفرض فلا حاجة للقيام بمزيد من البحث والتحليل، اكتفاءً بما انتهت إليه عملية التشاور.

إلا أنه في أغلب الحالات يحتاج الأمر القيام بنوع من أنواع التقييم والتحليل لمخرجات عملية التشاور. وقد يتم إعداد ورقة شاملة تتضمن تحليلًا لمخرجات عملية التشاور. وفي بعض الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشـريعي لا تتضمن هذه الورقة سوى تعداد للأصوات المؤيدة والمعارضة لتبني اختيار معين. وتقوم الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشـريعي بإعداد قرار نهائي بما انتهت إليه من توصيات، تمهيدًا لإصدار التقرير النهائي المنسوب لها.

تحليل العائد والكلفة: يعد تحليل العائد والكلفة أداة نافعة جدًا بالنسبة للمسؤولين عن عملية الإصلاح التشـريعي تعينهم على الوصول إلى قرار نهـائي بخصوص ما يمكن التوصية به من سياسات. فهذا التحليل يمكن أن يقدم حججًا مقنعة، لكن له أيضًا بعض المثالب.

فهذا التحليل يساعد على تجلية الكثير من الأمور أثناء عملية صنع القرار، عن طريق تحليل توازني بين مزايا وعيوب تبني وجه معين من أوجه السياسات، ويساعد كثيرًا على ترجيح كفة اختيار معين على غيره من الاختيارات. بل إن الحكومة نفسها قد تتطلب القيام بإجراء مثل هذا التحليل بالنسبة لبعض الاقتراحات التشريعية:

لكن ثمة إشكالية تخص إجراء تحليل العائد والكلفة تتمثل في أن هذا التحليل يعتمد على قياس التأثير المالي لاختيار معين من منظور اقتصادي صرف، والتقييم من هذا المنظور فقط قد لا يلائم كافة السياقات، فمثلًا عند تحديد مدى جدوى تقرير أهلية الترافع في بعض القضايا الجنائية، فإنه يمكن من منظور اقتصادي تقييم ما قد يترتب على هذا الإجراء من آثار بالنسبة لوقت القضاة، لكن لا يمكن تقييم ما قد يترتب على السماح بهذا الإجراء من آثار بالنسبة لليقين القانوني أو زيادة الثقة في النظام القضائي دون إجراء نوع من البحث الاجتماعي.

فضلًا عما تقدم فإن التحليل السابق يتم عبر فترات مختلفة، وبعض العوائد والتكاليف قد تحصل فورًا، كما هو الحال بالنسبة لحساب التكاليف اللازمة للحصول على بعض السلع أو الخدمات لتنفيذ سياسة معينة، أما العوائد فغالبًا ما تكون مستقبلية. ولضبط التكاليف والعوائد التي تحدث عبر فترات مختلفة، فثمة أسلوب يعرف بالتخصيم، وهذا الأسلوب يسمح بتحويل المنافع الخالصة إلى قيمة خالصة حالية. والقاعدة العامة لتحديد تبني قرار معين هو اختيار السياسة ذات القيمة الخالصة الحالية الأعلى.

وبعض الجهـات القائمـة على الإصلاح التشـريعي ليـس لديهـا الخـبرة أو القـدرة على القيـام بمثـل هذا التحليل بكفاءة عالية. ولذلك ينبغي الامتناع عن الانخراط في إجراء مثل هذا التحليل إذا لم تتوافر أدواته اللازمة.

مزايا ومثالب دراسات العائد والكلفة: يمكن القول بأن دراسات العائد والكلفة تضفي نوعًا من الشفافية على عملية صناعة القرار، وذلك عن طريق تحديد الأساس الذي تبني عليه القرارات بالرجوع للتكاليف التي يتحملها والعوائد التي يجنيها أصحاب المصالح. وأهم من ذلك أن هذه الدراسات تعين على تحديد أفضل أوجه إنفاق الموارد العامة.

غير أن الاعتماد على مثل هذا النوع من الدراسات لا يخلو من بعض الانتقادات. فثمة مخاوف تتعلق بالأساس النظري لتحليل العائد والكلفة. فالبعض يتساءل عن النطاق الذي يمكن من خلاله - عملًا بهذا التحليل - القيام بتقييم متوازن للتكاليف في مقابل العوائد. ويرتبط بذلك الصعوبات المرتبطة بفكرة تحويل المنافع المتحققة العوائد (لقيمة مالية وذلك بالنسبة لبعض العوائد غير ذات القيمة المالية الملموسة). فضلًا عما سبق، فإنه إذا كان من السهل قياس التكاليف بدقة في الوقت الحالي، فإن قياس العوائد بذات الدقة مستقبلًا أمر يصعب توقعه بدقة، وهذه الصعوبة قد يبرز معها جانب التكاليف في مواجهة العوائد خلافًا للحقيقة.

باختصار، فإن التركيز الشديد على الجانب المالي من عملية تقييم الأثر، وغض الطرف عن العناصر الأخرى الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والسياسية أمر قد يضعف من حجة القائلين بضـرورة الاعتماد على دراسات العائد والكلفة بشكل كبير. وأحيان تطلب الحكومة أن يصحب الاقتراحات التشـريعية أو غيرها من المبادرات القيام بالعديد من دراسات تقييم الآثار، للتأكد من أن النتائج المرجوة تم اعتبارها أثناء عملية صناعة القرار، كدراسة تأثير قرار معين على مبدأ المساواة، وحقوق الإنسان، أو على المناطق القروية، وهكذا...

من يقوم بدراسات تقييم الأثر؟

ربما لا تكون الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشـريعي مضطرة للقيام بدراسات تقييم الأثر، وتترك الأمر للجهة الحكومية المسؤولة إذا ما تبنت اقتراحات الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشـريعي. لكن ثمة أسباب وجيهة قد تدعو الأخيرة للقيام بمثل هذه الدراسات، فمثلًا قد ترى الجهة القائمـة على عمليـة الإصلاح التشـريعي أن القيـام بمثـل هذه الدراسـات قد يشـجع الحكومـة على تبني توصياتها. وقد ترى هذه الجهـة أنها الأقدر على القيـام بمثل هذه الدراسات بحـكم أنهـا التي رافقت المشـروع منذ أن كان فكرة حتى اسـتوى على سـوقه في صـورة توصيـات. وعلى العكـس قد لا ترى هذه الجهة ضرورة القيام بمثل هذه الدراسات بنفسها، وفي هذه الحالة قد تعرض المساعدة على إجراء هذه الدراسات على الجهة الحكومية المختصة.

ج‌- الإجراءات الدستورية للإصلاح التشريعي:

يعد التقنين الموضوعي للقانون أقرب الاصطلاحات لفحوى فكرة الإصلاح التشـريعي، إذ يتضمن دمج التـشريعات في وثيقـة واحـدة باعتبـار موضـوعها، فضـلًا عن إعـادة صيـاغتها وتطـويرها إلى جانب دمجها، لكنه على الأرجح مرحلة سابقة عليه، إذ يغلب عليها الاهتمام بدمج التـشـريعات ذوات الصلة وتحسين صياغتها أكثر من صبها في قالب متطور واحد في ضوء فلسفة واحدة.

والتقنين هو اخراج القوانين بصورة مكتوبة بواسطة السلطة المختصة، وسبق أن بينا أن وظيفة التشـريع هو إصـدار القوانين من اختصـاص البرلمان (مجلس النواب باليمن) حسـب الدستور اليمني، كما جاء في الدستور اليمني[9]: المادة 62: (مجلس النواب هو السلطة التشـريعية للدولة وهو الذي يقرر القوانين ويقر السياسة العامة للدولة والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والموازنة العامة والحساب الختامي، كما يمارس التوجيه والرقابة على أعمال الهيئة التنفيذية على الوجه المبين في هذا الدستور).

معلوم أن النسق القانوني في الجمهورية اليمنية يتمثل في ثلاثة مستويات نسميه هرم التـشريع ولإيضاح السلطة المختصة بإصدار التشـريعات نبين النسق القانوني في الجمهورية اليمنية الذي يتمثل في ثلاثة مستويات نسميه (هرم التشـريع) يكون في المستوى الأول أعلى الهرم الدستور (الذي جاء بناء على استفتاء شعبي عام)، ثم المستوى الثاني يتمثل في القـوانين التي تختـص بإقـرارها السلطة التشـريعيـة (البرلمان مجلس النواب)، ثم المستوى الثالث أدنى الهرم، اللواح القانونية (التنفيذية والتنظيمية والضبطية) وتختص بإصدارها السلطة التنفيذية كونها المحتكة والمتعاملة مع الجمهور والمختصة بالتنفيذ. بحيث ألا يخالف النص الأدنى للنص الأعلى، أي نصوص مواد اللوائح يجب ألا تخالف نصوص القوانين، ونصوص القوانين واللوائح لا تخالف نصوص الدستور، تجنبًا للطعن بعدم دستوريتها بحسب المادة (153) من الدستور التي جاء فيها: المحكمة العليا للجمهورية هي أعلى هيئة قضائية، ويحدد القانون كيفية تشكيلها ويبين اختصاصاتها والإجراءات التي تتبع أمامها، وتمارس على وجه الخصوص في مجال القضاء، الفصل في الدعاوى والدفوع المتعلقة بعدم دستورية القوانين واللوائح والأنظمة والقرارات. ويبقى الدستور هو البوصلة والمرشد والموجه في كل تعديل أو إصلاح قانوني.

نفاذ القانون: هو إلزام كافة المخاطبين بأحكامه عن طريق استخدام وسائل الإجبار العام. والقانون قد يسن من الجهة المختصة بذلك ومن ثَمَّ فإنه في هذه الحالة يعد موجودًا، إلا أنه لا يعد نافذًا في مواجهة المخاطبين بأحكامه إلا إذا مر بمرحلتي الإصدار والنشر.

إصدار القانون: هو عمل إجرائي يقوم به رئيس الجمهورية باعتباره رأس السلطة. ويقصد به أمرين: الأول؛ إثبات وجود القانون الجديد بمعنى تسجيل الوجود القانوني للتشريع الجديد بعد انتهاء المرحلة التشـريعية، فالإصدار يعد بمثابة شهادة ميلاد للقانون والثاني: أمر الرئيس بوضع قانون موضع التنفيذ والعمل به كلٌ فيما يخصه، ويعد إصدار أمر لازم لنفاذ القانون واللوائح. ويتم إصدار القانون عن طريق توقيع رئيس الجمهورية على القانون ويشار إليه برقم مسلسل خلال السنة التي صدر فيها.

نشر القانون: هو إجراء لاحق للإصدار، أو عملية مادية تهدف إحاطة كافة الأشخاص علمًا بولادة قانون آخـر ونفـاذه ووجـوب احترامه، وذلك عن طريق نـشره في الجريدة الرسمية ويأتي في آخر المراحل التي مر بها التشريع.

الغاء القاعدة القانونية: أي انهاء العمل بها بتجريدها من قوتها الملزمة، والإلغاء قد يتم من خلال استبدال قاعدة جديدة بقاعدة قديمة، أو من خلال الاستغناء عن القاعدة القانونية نهائيًا، والهدف من الإلغاء هو رعاية مصالح الناس في حال تبين عدم ملائمة قانون ما أو مادة قانونية المصلحة العامة. وهذا أمر تقتضيه طبيعة الأشياء باعتبار أن قواعد القانون لابد أن تستجيب لكل تطور في الواقع الاجتماعي المتغير على دوام.

السلطة التي تملك الإلغاء: الأصل أن السلطة التي تملك الغاء القاعدة القانونية هي ذات السلطة التي تمتلك انشاءها أو سلطة أعلى منها.

إخفاء المراجع

المراجع

  • المستشار محمد عبدالفتاح عبدالبر، مرجع سابق.
  • نلاحظ أن ما يصدر من تشريعات في اليمن كثير منها يعتريه عوار قانوني، عرجاء مثل قانون المرور كله عقوبات فقط دون وجود حقوق للسائق، أو قانون المالك والمستأجر لم تشارك الأطراف في وضعه، أو قانون المرافعات والتنفيذ المدني لم يشرك المحامون في وضعه.. وغيرها من القوانين التي لم يتبع في اصدارها مراحل وإجراءات فنية لازمة (قبل الدستورية) لإصدار أو دمج أو الغاء أو تعديل القانون (الإصلاح القانوني) ما يسبب ظهور إشكالات عديدة عند تطبيقها.
  • شرف الدين، أحمد عبدالرحمن: الوجيز في أحكام القانون الإداري، الصادق للطباعة والنشر والتوزيع، صنعاء، 2013، ص134-137.
  • في مسألة الاختصاصات بإصدار القوانين واللوائح بالجمهورية اليمنية، سيتم إيضاحه بالمرحلة الثالثة في هذا المحور الثاني.
  • ويحكم الهيئات والمؤسسات العامة في اليمن القرار الجمهوري بالقانون رقم 35 لسنة 1991م بشأن الهيئات والمؤسسات والشركات العامة.
  • المستشار محمد عبدالفتاح عبدالبر، مرجع سابق.
  • المرجع السابق نفسه.
  • المرجع السابق نفسه.
  • دستور الجمهورية اليمنية.

إخفاء المراجع

المراجع