تجربة رواندا في الإصلاح الإداري
تعد رواندا من الدول التي تحولت من حالة الفقر والحرب إلى حالة النمو والاستقرار خلال عشـرين سنة، حيث أصبحت تمثل نموذجًا يحظى بالاهتمام والدراسة دوليًا وأكاديميًا، لاسيما فيما تعلق بالمسامحة الشعبية والتسامح والحوكمة الاقتصادية، التي جعلت من إعادة بناء الدولة ومؤسساتها على أسس جديدة واقعًا ملموسًا في رواندا، اعتماداً على وجود قيادة سياسية وفرض لقوة القانون بما يضمن عدم إقصاء أيٍّ من طوائف المجتمع.
تقع راوندا في وسط القارة الإفريقية إلى جنوب خط الاستواء، حيث تحدها أوغندا شمالًا وبروندي جنوبًا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وتنزانيا شرقًا، وتبلغ مساحتها 26,338 ألف كيلومترًا مربعًا، كما أنها دول داخلية عديمة الاتصال بالبحر وتمتاز مظاهرها الجغرافية بالتنوع الكبير من أنهار وسهول وبحيرات وهضاب وجبال بركانية، وتتميز رواندا بمناخ استوائي مناسب وأمطار موسمية غزيرة.
ويتشكل الإطار السكاني لرواندا من ثلاث مجموعات عرقية، هي: قبائل ألتوا: وهم مجموعة من الصيادين التقليديين تشكل %1 من مجموع السكان، قبائل الهوتو: عرفت بالحياة الزراعية، بالإضافة إلى الصيد الذي تمتهنه الأغلبية المطلقة في رواندا 84% من مجموع السكان، قبائل التوتـسي: تعني رعاة الماشيـة، وهي الطبقـة الأكثر ثراء في رواندا، يمتلكون تقاليد حربية صارمة، بالإضافة إلى تطويرهم لمؤسسات وتنظيمات مركزية قوية، ويشكلون أقلية؛ إذ يمثلون 15% فقط من مجموع سكان رواندا[1].
عرفت رواندا عددًا من التحديات الداخلية والخارجية التي أعاقت خطط التنمية فيها[2]:
مخلفات الحرب الأهلية عام 1994م: نتيجة الصـراع على السلطة والثروة، ونتيجة لهذا الصـراع ذكر صندوق النقد الدولي أنه بعد الإبادة الجماعية مباشرة حصل هناك انهيار للقدرة الإدارية على مستوى الحكومة المركزية والمحلية، وحصل شلل تام في تقديم الخدمات الاجتماعية والمالية[3].
تراجع إنتاجية القطاع الفلاحي: شغلت الزراعة أكثر من 90% من القوى العاملة، لكنها كانت قطاعًا بدائيًا مكتفيًا بالإنتاج للاستهلاك العائلي، والأراضي الصالحة للزراعة لا تكفي لكي تكون مصدر رزق مستقر لكل الروانديين، وكذلك الاستخدام المفرط للأسمدة، الذي له آثار سيئة في إنتاجية الأراضي.
ضعف القاعدة الاقتصادية: تعتمد رواندا على إنتاج القهوة والشاي وتصديرهما، وهذا لا يكفي لبناء اقتصاد قوي، ويبقى الغاز الطبيعي المتوافر في بحيرة (كيفو)، الذي تمتلك منه البلاد احتياطات كبيرة تقدر بحوالي 60 مليار متر مكعب، إلا أنها لم تستقطب الاستثمارات اللازمة من حيث الاستكشاف والاستغلال.
تراجع جودة رأس المال البشـري: تعد الأمية العائق الأهم في تحديث الاقتصاد الرواندي، حيث أن %42 من الروانـديين لا يعـرفون القـراءة والكتابـة، عـلاوة على سـوء التغذيـة وانتـشار الأمراض الخطيرة، وهو ما يعيق تطور القطاعات الاقتصادية المهمة التي تحتاج إلى موارد بشـرية ذات خبرة وكفاءة.
الدور الاستعماري: كانت سياسة الاستعمار البلجيكي تشبه سياسة الإنجليز المبنية على التفريق والتقسيم؛ من أجل إحكام السيطرة، وكان نمط الإدارة البلجيكية الاستعمارية هنـاك غير مباشـر باستخـدام مشايخ ورؤساء «التوتـسي» الحكام التقليديين، ما سمح «للتوتـسي» بفرض إدارتهم على «الهوتو»[4].
المديونية الخارجية: عانت رواندا من مشاكل المديونية الخارجية؛ وذلك بسبب الإفراط في الديون والمساعدات الخارجية، التي تغطي 42% من الميزانية.
حواجز تعيق التجارة الخارجية: معظم التجارة الخارجية لرواندا يكون عن طريق البر وهو ما يتطلب تكاليف باهظة للتصدير أو التوريد؛ نظرًا لبعد الموانئ البحرية للبلدان المجاورة، علاوة على افتقار البلاد شبكات السكك الحديدية التي تربط رواندا بجيرانها[5].
هناك عدد من العوامل الداخلية والخارجية، التي حددت المسارات العامة في نهضة رواندا، والفرص المتاحة التي على أساسها تحتكم إليها مخططات التنمية.
هناك عناصر مهمة جرى الاعتماد عليها في إعادة بناء الدولة وفقًا للنظريات السياسية المتعلقة بالنزاعات والحروب الأهلية، وهي: الأمن والاستقرار، الإنعاش الاقتصادي، بالأمن والاستقرار، بناء الدولة ديمقراطيًا، عودة اللاجئين والمواطنين النازحين إلى وطنهم، نزع سلاح المليشيات ودمجها ضمن عناصر قوات الأمن والشـرطة، والمقصود بالإنعاش الاقتصادي إعادة بناء وتحويل الاقتصاد لتحقيق النمو الاقتصادي والحد من الفقر ومنع نشوب النزاعات من خلال استعادة عمل مؤسسات الدولة وتطبيق القانون[6].
العدالة الانتقالية وتعزيز المصالحة الوطنية: بمحاكمة جميع المتهمين بالتخطيط للإبادة الجماعية، وقد تضمنت عملية المحاكمة جبر الضـرر لكل شخص وقع عليه أذى من الجرائم المرتكبة، والعمل على إعادة بناء الجيش الرواندي وقوات الأمن، مع تحويل عقيدة الجيش من عقيدة الولاء العرقي والعصبية إلى عقيدة الولاء الخاص للدولة الرواندية ككل.
الاهتمام بالتعليم: أولى رئيس رواندا «بول كاجامي» أهمية قصوى للتعليم، وفرض مدة إلزامية حددت في 12 سنة من التعليم المجاني، واستبدل نظام تقديم المدرسيين من الأقدمية نحو معيار نسبة النجاح، وأقر زيادة مستمرة في ميزانية التعليم، فبعد أن كانت 17% سنة 2013م، أصبحت 23% سنة 2018م، وقد ورد في تقرير (جودة التعليم عام 2014م) الصادر عن اليونسكو أن رواندا من أفضل ثلاث دول في تجربة النهوض بالتعليم، كما أسست حكومة رواندا نظام (تكنولوجيا المعلومات والاتصال من أجل التعليم)، وهو نظام يستبدل وسائل التعليم والكتب التقليدية بمنصات إلكترونية، وقد تعزز هذا النظام بإطلاق قمر صناعي يضمن الخدمات التكنولوجية الفعالة والسريعة في التعليم.
دور القيادة السياسية في تحقيق التنمية: سعت القيادة السياسية في رواندا إلى خلق السلام والحفـاظ عليه وإعادة بناء العلاقـات المتضـررة بين أفراد المجتمـع وذلك عن طريق اتباع استراتيجية رئيسة للقيادة تتمثل بإقامة علاقات بين مختلف الأفراد في المجتمع، سواء كانوا أعضاء سابقين داخل أم خارج الجيش أو ما بين مجموعات عرقية مختلفة، وكذلك بين المجتمع المدني والجيش، وتعد رواندا دولة ذات جمهورية مستقلة ديمقراطية وعلمانية وتوجه اجتماعي، أي: أنها تتبع مبدأ (حكم الشعب بالشعب ولصالح الشعب) وتستمد سلطاتها كافة من الشعب، أي: أن السيادة الوطنية تكون للشعب وتمارس من قبل ممثلي الشعب أو بالاستفتاء[7].
وتعد الجهود المبذولة من قبل رئيس دولة رواندا «بول كاغامي» الذي تولى الحكم في عام 2000م السبب في تحقيق الاستقرار السياسي والسلام الداخلي؛ إذ سعى إلى جعل رواندا أمة موحدة وحديثة وقوية دون تمييز بين مواطنيها من خلال اتباعه خططًا واستراتيجيات تنموية تمثلت بالآتي[8]:
إنشاء دستور جديد جرت المصادقة عليه في 26 مايو/آيار 2003م؛ ليدخل حيز التنفيذ بعد حصوله على الموافقة عن طريق الاستفتاء الشعبي، وقد نصت ديباجة الدستور الجديد على منع أشكال التمييز القسـري كافة بين المواطنين ودحر كل ما يتعلق بمدة الإبادة الجماعية.
تأسيس مؤسسات ديمقراطية تحارب أشكال وأنواع الدكتاتورية كافة، وإقامة دولة جديدة تحكم من قبل القانون تقوم على احترام حقوق الإنسان والتعددية السياسية والتقسيم العادل للسلطة وحل المشاكل الداخلية عن طريق الحوار.
إنشاء نظام حكم يقوم على تعددية الأحزاب كما جاء في الدستور.
يمكن القول: إنه بفضل النمو الاقتصادي تحولت رواندا إلى واحدة من الدول العشـر الأكثر استقطابًا للمستثمرين في إفريقيا، وأعلن بنك إفريقيا الجنوبية في تقرير له نهاية عام 2015م أن رواندا احتلت المركز التاسع بقائمة أكثر الدول استقطابًا للمستثمرين في القارة الإفريقية، وبحسب التقرير فإن رواندا وإثيوبيا وردتا لأول مرة ضمن قائمة الدول العشـر الأوائل، واعتمد البنك الإفريقي في تقريره على معايير مختلفة، مثل: حجم السوق، الناتج القومي الخام، النمو الاقتصادي جودة مناخ الاستثمار، إضافة إلى ارتفاع إيرادات السياحة، حيث بلغت أكثر من 400 مليون دولار في عام 2016م فقط، ووفق تقرير حكومي رسمي تحتل السياحة حاليًا 43% من الدخل الإجمالي للبلاد.
عملت الحكومة الرواندية على تشجيع الاستثمارات الخارجية، بواسطة وضع قانون جديد للاستثمار، وأنشأت ما يعرف بـ (الشباك الواحد) الذي يمكن المستثمر من إنهاء جميع الإجراءات في مكان واحد وخلال بضع ساعات، كما عملت على تأسيس مجلسًا استشاريًا للاستثمار والتطوير، كان أعضاؤه من الروانديين ذوي الكفاءات العليا والمنتـشـرين في مختلف دول العالم، وألغت رواندا التأشيرة لجميع الأجانب، سواء كانوا أفارقة أم أوروبيين، وهذا ما جعل العاصمة «كيغالي» أكثر العواصم الإفريقية استقبالًا للسياح الأجانب، وقد أسهمت هذه الممارسات والخطط في تطور الإنتاج الداخلي الخام عشـرة أضعاف في غضون 16 سنة، فبعد أن كان لا يتعدى 900 مليون دولار سنة 1994م أصبح يناهز 9.14 مليار دولار سنة 2017م، وتحولت رواندا إلى واحدة من أهم الاقتصادات في العالم، وصنفت وفق تقرير لمنظمة دول «الكوميسا»[9] لسنة 2016م، أول دولة إفريقية جذبًا للمستثمرين ورجال الأعمال[10].
التي تضمنت مجموعة من الأهداف:
الأهداف القصيرة: تركزت على (تكوين الثروات، تقليل الاعتماد على الديون الدولية، تشجيع الاستثمار في البلاد).
الأهداف المتوسطة: ركزت على (التحول بالاقتصاد الزراعي من الطريقة التقليدية إلى الطريقة العلمية المعاصرة، عن طريق توظيف التعليم والتكنولوجيا والاتصالات).
الأهداف طويلة الأمد: ركزت على (خلق طبقة وسطى مثقفة ومنتجة تسهم في تطوير اقتصاد البلاد).
وقد هدفت الإصلاحات التي اتخذتها حكومة راوندا عبر تبنيها عدة سياسات إلى:
عملت حكومة رواندا على تعميق الحكم الديموقراطي واستدامته على مستوى القاعدة الشعبية، وتعزيز التنمية المحلية العادلة وتقوية نظام الحكم المحلي مع الحفاظ على روابط وظيفية فعالة وخاضعة للمساءلة المتبادلة بين كيانات الحكومة المركزية والسلطة المحلية، حيث تتكون رواندا حاليًا من مستويين حكوميين (مركزي ومحلي) وستة كيانات إدارية، هذه الهياكل التي أعيد تنظيمها بموجب إصلاحات عام 2005م التي تعد مكملة لبعضها بعض، وهذه التقسيمات يرأسها أشخاص مختلفون في كل مستوى ولكل منهم أدوار مختلفة.
شرعت حكومة رواندا في مجموعة رائعة من إصلاحات القطاع العام، وكان إجراء هذه الإصلاحات لزيادة المساءلة والشفافية ومستوى المشاركة في الحكومة، وينعكس التزام الحكومة بالإصلاح في سياق التوجهات الاستراتيجية الآتية:
أطلق الرئيس استراتيجية السلام والمصالح الوطنية وإلغاء الفوارق الطبقية والعرقية، وعمل - جاهدًا - على توحيد شعبه، واعتمدت حكومة رواندا تنفيذ اللامركزية القطاعية بشكل فعال؛ لضمان تقديم خدمات عالية الجودة للناس؛ من أجل تحسين رفاهيتهم الاجتماعية، والهدف من ذلك تحقيق جودة عالية ومستويات معيشية مناسبة للأفراد، بما يحقق رفاهية المجتمع.
بشكل عام شرعت حكومة رواندا في مجموعة من الإصلاحات التي تعكس التزام الحكومة في جملة من سياسات الإصلاح الإداري منها:
بالإضافة إلى وضع سياسة وطنية للوحدة والمصالحة، تُعد الإصلاحات الدستورية والقانونية أساسية لتحقيق المصالحة الوطنية لقد وفرت أساسًا مؤسسيًا وقانونيًا ملائمًا للمبادرات الوطنية والمحلية.
كانت حكومة ما بعد 1994م على يقين أن رواندا لا تملك - قط - دستورًا ينص على القيم والمبادئ التي تسمح ببناء مجتمع موحَّدْ يُلزم الدستور الجديد الصادر في 4 يونيو 2003م الحكومة بالتقيّد بتعزيز الوحدة الوطنية والمصالحة، ويحظر من أي شكل من أشكال الانقسام والتمييز بين الروانديين وشملت التحديثات الهامة التي نص عليها دستور عام2003م، إنشاء مؤسسات مختلفة تُناط بها مسؤولية المساعدة في حل المشاكل الرئيسة التي تواجهها البلاد: مثل محاكم «غاشاشا» المجتمعية، ومجلس الحوار الوطني «أموشييكيرانو»، ومدرسة التأهيل الوطنية - إتوريرو، ومعسكرات التأهيل الوطنية - الإنغاندو، والعمل المجتمعي - أموغاندا، وأدت الوحدة والمصالحة دورًا أساسيًا في هذه الحالات كافة.
في أغسطس 2007م أُعلن رسميًا عن سياسة وطنية للوحدة والمصالحة تشكل هذه السياسة مشـروع هندسة اجتماعية طموحة، ترى الحكومة التي ترأسها الجبهة الوطنية الرواندية أنها ستبني هوية رواندية موحدة، وستعزز المصالحة بين الناجين من الإبادة الجماعية ومرتكبيها، يشار في هذه السياسة التي تربط - دائمًا - بين الوحدة والمصالحة ولا تفصل بينهما، إلى المصالحة الوطنية باسم (الوحدة الوطنية والمصالحة)، ومن هنا جاءت تسمية (سياسة الوحدة الوطنية والمصالحة)، يقوم هدف السياسة العام على بناء رواندا موحَّدة، يتمتع فيها جميع المواطنين بحقوق متساوية وبحرية المشاركة الجماعية في حكم بلادهم وتنميتها.
شكلت محاكم «غاشاشا» الأداة الرئيسة الثانية إلى جانب اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة؛ لتنفيذ سياسة الوحدة والمصالحة في رواندا، هدفت إعادة نظام غاشاشا إلى جمع أفراد المجتمعات المحلية وإشراكهم في تحقق العدالة، قامت محاكم «غاشاشا» تحت شعار (العدالة التصالحية)، بمحاكمة مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية التي، ينص (قانون غاشاشا) على إنشاء (آلية غاشاشا)؛ من أجل تحقيق العدالة والمصالحة في رواندا، لإعادة بناء المجتمع الرواندي ليس بهدف العقاب فحسب، وأصبحت المشاركة في «غاشاشا» إلزامية، وجرى تغريم الأفراد أو سجنهم في بعض الأحيان في حال توانوا عن المشاركة، واضطلعت «غاشاشا» بمهمة كشف الحقيقة والإسراع في وتيرة المحاكمات، والقضاء على ثقافة الإفلات من العقاب عن طريق معاقبة مرتكبي الإبادة الجماعية، والإفراج عن الأبرياء، وتقديم التعويضات، وتوفير مساحة للحوار وتعزيز المصالحة الوطنية.
دخل (نظام غاشاشا) حيّز التنفيذ رسمياً مدة 10 سنوات من 18 يونيو 2002م إلى 18 يونيو 2012م، وضم 10,000 محكمة نظرت في 1,958,634 قضية [11]، وترأس هذه المحاكم مواطنون عاديون أُطلق عليهم اسم (إنيانغا موغايو)، أي( الأشخاص النزهاء)، وانتخبهم أفراد المجتمع، وبلغ عددهم 260,000 فردًا، أُطلق عليهم رسميًا تسمية (قضاة غاشاشا).
ويرى «هالر» أن هذا العدد الكبير من القضاة المنتخبين في نظام غاشاشا يجسد ربما أكبر تجربة في مجال العدالة الشعبية في التاريخ الحديث[12].