تجربة سنغافورة في الإصلاح الإداري
كانت سنغافورة قبل خمسة عقود بلدًا متخلفًا، يرزح سكانه تحت فقر مدقع، مع مستويات عالية من البطالة ونصف السكان من الأميين؛ لتصبح اليوم واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، حيث ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد بنسبة لا تصدق؛ إذ وصل إلى أكثر من 60 ألف دولار أمريكي، مع معدل للبطالة بلغ 2% فقط، وتمتلك سوقًا حرًا على درجة عالية من التطور والنجاح، وهي واحدة من المراكز التجارية الرائدة في العالم، ومقصد رئيس للاستثمارات الأجنبية والخدمات اللوجستية.
سطرت سنغافورة واحدة من أهم قصص النجاح الاقتصادي في العالم، وأصبح صعودها الاقتصادي أنموذجًا يُحتذى به دوليًا، بالنسبة إلى بلد يفتقر إلى الأراضي والموارد الطبيعية والمالية، ولكن عن طريق تبني سياسات منفتحة على الخارج، وتطبيق رأسمالية (السوق الحرة) والتعليم والبحث والابتكار، وسياسات واقعية صارمة، استطاعت سنغافورة التغلب على عيوب الجغرافيا، وتصبح رائدة في التجارة العالمية، مع صغر حجمها الذي يبلغ 682.7 كم2.
يعتمد هذا الإطار على ثلاث مؤسسات رئيسة، كان لها الدور الأساس في تحفيز عملية التنمية في سنغافورة ودفعها إلى الأمام، وهي[1]:
مجلس التنمية الاقتصادية (E D B):
يعد هذا المجلس من أوائل المؤسسات التي أُنشئت في سنغافورة؛ لتطوير الاقتصاد في البلاد عن طريق الإسهام في تنفيذ عدد من الاستراتيجيات التنموية، لاسيما في قطاعي الصناعة والخدمات، ولطالما سعى هذا المجلس الذي يضم عددًا من رؤساء الشـركات الدولية المعروفة ضمن لجنة المستشارين الدوليين للمجلس لغرض إطلاع صانعي السياسة الاقتصادية في سنغافورة بأحدث التطورات التكنولوجية في العالم؛ وذلك التحقيق الأهداف الآتية[2]:
بما أن التجارة الخارجية تمثل ركنًا أساسيًا في الاقتصاد السنغافوري؛ نظرًا لكونها أحد الأنشطة الاقتصادية التي تعتمد عليها البلاد منذ مدة طويلة، فقد جرى فصل هذا المجلس الذي كان أحد فروع مجلس التنمية الاقتصادية بعد اتساع أنشطته؛ من أجل أن يؤدي دوره في رسم خريطة التجارة الخارجية لسنغافورة حاليًا ومستقبلًا، وتتركز مهام هذا المجلس الذي يرأسه نظرًا لأهميته وزير التجارة والصناعة السنغافوري بالآتي[3]:
إن الحفاظ على موقع سنغافورة التنافسـي على المستوى العالمي يتطلب رفع مستوى إنتاجية السلع والخدمات، وهذا ما حدا بها إلى إنشاء هذا المجلس في العام 1981م، الذي يعمل عن طريق برامج مختلفة على صقل المهـارات البشـرية وتنميتهـا لإيصالهـا إلى مستويات عالية من الإنتاجية، وتأكيدًا لشعاره: (الجودة في العمل تعني الجودة في نوعية الحياة) أخذ المجلس على عاتقه منذ العام 1991م مهمة تنظيم حملات للارتقاء بالإنتاجية.
وتتويجًا لجهودها في هذا المجال بدأت سنغافورة ابتداء من العام 1995م خطتها الخمسية للارتقاء بمستوى الإنتاجية اعتمادًا على مفهوم الابتكار والجودة عن طريق إيصال التنمية في البلاد إلى هدفين هما: رفع مستوى كفاءة عوامل الإنتاج (المدخلات)، تشجيع الابتكارات لتطوير عمليات التجديد في مختلف المنتجات؛ من أجل ذلك سعت سنغافورة إلى إيصال نمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج إلى مستوى لا يقل عن (2%) سنويًا[4].
وقد صُنفت سنغافورة على الدوام أنها أقل الدول فسادًا في آسيا وبين أكثر عشـر دول نظافةً في العالم من قبل منظمة الشفافية الدولية، وصنفت مؤشرات إدارة البنك الدولي سنغافورة -أيضًا - بدرجة عالية فيما يتعلق بسيادة القانون، ومراقبة الفساد ومستوى فاعلية الحكومة.
تتشارك العديد من الدراسات في الاستشهاد بمجموعة من العوامل دون غيرها في تعليل نجاح التجربة التنموية السنغافورية نذكرها فيما يلي:
وجدت سنغافورة نفسها وحيدة بعد الانفصال؛ إذ كان عليها مواجهة مجموعة من المشاكل إذا ما أرادت البقاء دولة مستقلة، و كانت أبرز المهام التي تتطلب إيجاد الحلول لها هي قضية بناء الجيش، وتأسيس الأسواق، وحل مشاكل العمالة والسكن، وقد نجحت الحكومة على مدى سنوات عدة في إيجاد معالجات عملية لهذه القضايا بشكل متوازن دون إيثار جانب على حساب جانب آخر، لكن الطابع الاقتصادي للتنمية في دول جنوب شرق آسيا ومنها سنغافورة - دائمًا - كان له الأولوية في الاهتمام والبحث؛ لكونه القلب النابض للتنمية والمرتكز الأساس في إظهار تقدم الأمم ودعم تفوقها على المستويين الإقليمي والعالمي.
يمكن تقسيم هذه المراحل إلى ما يلي:
تميزت استراتيجية الدولة التنموية خلال هذه المرحلة بنظرة اشتراكية للرأسمالية، فهي تدعم كل ما يؤدي إلى تعزيز الرأسمالية في الحياة الاقتصادية وإعطائها الأهمية الكافية في الوقت نفسه للجوانب الاجتماعية للتنمية؛ لهذا لم تتوان الحكومة السنغافورية التي كان يترأسها آنذاك «لي كوان يو» في العام 1960م على طلب المساعدة من الأمم المتحدة لإمدادها بلجنة من الخبراء تساعدها في رسم خطة اقتصادية ملائمة لسنغافورة، وقد أوصت هذه اللجنة بعدة دراسات مستفيضة لأوضاع البلاد بإنشاء هيئة يمكنها الإشراف على تنمية الاقتصاد.
خلال هذه المرحلة جرى الاعتماد على نمو إنتاجية المدخلات بدلًا من زيادة حجمها؛ لذا اعتمدت سنغافورة استراتيجية قائمة على مرتكزين الأول: تقوم على استيراد أحدث التطورات التكنولوجية العالمية؛ من أجل زيادة إنتاجية رأس المال والعمالة عن طريق تشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتوظيف المواهب الأجنبية بوصفها الوسيلة المثلى لنقل المعارف والعلوم، والثاني: توفير البيئة القانونية والفكرية والحوكمة الرشيدة ورعاية المواهب المكتسبة؛ من أجل خلق مجالات للابتكار والتقدم التكنولوجي [10]، وكذلك تطورت استراتيجية تقنية المعلومات في سنغافورة عن طريق اعتماد خطة الدولة القومية التي قسمت على مرحلتين بواسطتهما حققت هدفين:
انطلقت هذه المرحلة مع بداية التسعينيات؛ بهدف تحويل سنغافورة إلى جزيرة ذكية من خلال اعتماد خطة أطلق عليها اسم (الخطة العامة لتقانة المعلومات 2000م)؛ بحيث تدخل المعلومات كل جانب من جوانب الحياة في سنغافورة.
وفي هذه المرحلة وضعت سنغافورة أولى أقدامها على طريق التحول نحو اقتصاد المعرفة الذي يقوم على حُسن استخدام المعارف الناتجة عن التقدم العلمي، لاسيما في مجالي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ بهدف ابتكار وإنتاج سلع وتجهيزات جديدة من جهة، وتطوير وسائل الإنتاج وأدواته بما يؤدي إلى تحسين نوعية السلع وجودتها، ومن ثم امتلاك القدرة على المنافسة في الأسواق الإقليمية والعالمية في ظل نظام العولمة من جهة أخرى[11].
ومع دخول العالم مرحلة العولمة في بداية تسعينيات القرن الماضي سارعت سنغافورة إلى الاندماج فيها لما لها من آثار إيجابية بنظر رئيس وزراء سنغافورة الأسبق (لي كوان يو) من حيث قابليتها على رفع مستوى المعيشة وزيادة فرص التوظيف، ويرى أن أقلمة الاقتصاد السنغافوري مع متطلبات العولمة البنيوية المتعلقة بالنظام المصـرفي واحتياطات العملة قد أسهم بشكل مباشر في التخلص من الآثار السلبية للعولمة ومكنها من تجاوز آثار الأزمة المالية الأسيوية المدمرة في العام 1997م، الذي رأى حينها أن أفضل وسيلة للتخلص منها هو الاندماج في نظام العولمة مستشهدًا بحقيقة (قد يكون هناك خاسرون، لكنهم سيزيدون وستكون الخسارة مضاعفة إذا جرى التراجع عن مفهوم العولمة وإذا لم تقبل هذه الدول العولمة بكامل شروطها الاقتصادية والسياسية، فهي ظاهرة حتمية تفرض على الدول خيارين لا ثالث لهما إما أن تتصـرف طبقًا لمقتضيات السوق والمشـروع الخاص، أو تتراجع نحو الخلف وتتحمل تبعات عملك، فالعولمة تفترض وجود سوق رأسمالي تفاعلي واحد، وعلى كل دولة أن تتصـرف فيه طبقًا لقواعد محددة، بمعنى أن جوهر العولمة يشير إلى وجود قواعد موحدة للتعامل في السوق الرأسمالية [12].
كما سجل الإنفاق على البحث والتطوير ابتداء من النصف الثاني من التسعينيات ارتفاعًا ملحوظًا مسجلًا (19%)، وقد أسهم القطاع الخاص إسهامًا فاعلًا في دعم هذه الأنشطة عبر تمويله بنحو ثلثي حجم إنفاقها؛ ما انعكس إيجابا على التطور الكبير الذي شهده إنتاج الصناعات عالية التقانة وصادرتها.
نجحت سنغافورة في التحول من دولة ضعيفة إلى دولة قوية؛ وذلك بفضل السياسات الناجحة والمتوازنة التي طبقتها البلاد؛ إذ أدركت القيادة السياسية في سنغافورة أن الاهتمام بالجانب الاجتماعي يساعد في تنمية الجانب الاقتصادي، ويكون دوره مكملًا للتنمية الاقتصادية، ويعد الرئيس «لي كوان يو» صاحب الدور الكبير في نهضة سنغافورة وازدهارها عن طريق الكثير من الإنجازات التي قدمها، منها الاهتمام بالتنمية الاجتماعية[13].
وذلك عن طريق إعطاء أهمية بالغة للتعليم والتربية، وكان الرئيس (لي كوان) يتبع نظام الادخار ويملك القدرة على التنبؤ بما تحتاجه بلاده؛ إذ جرى الاعتراف بعبقرية هذا الرجل قياسًا بالتغيير الذي أحدثه بتحويل دولة ضعيفة وهشة وذات بنية وهيكل اقتصادي متخلف إلى دولة مزدهرة ومتطورة ومتحضـرة، تحظى باهتمام دول العالم وكان «لي كوان» يعتمد على سياسة التعليم وتأهيل الموارد البشرية.
ويعد «لي كوان يو» شخصًا ملهمًا، يتمتع بإرادة صلبة وإخلاص رفاقه الذين بدونهم لم يكن الإنجاز قد تم كما قال هو؛ إذ يعكس صورة الزعيم الأوحد الذي وضع خطة عبقرية حوَّلت سنغافورة من دولة فقيرة إلى غنية، ونقلها من التخلف إلى التقدم، فعل ذلك عن طريق العمل المخلص المتفاني لعشـرات السنين وبمساعدة من أصغر إلى أكبر شخص في المجتمع.
ويمكن القول: إن التجربة التنموية في سنغافورة هي تجربة ناجحة؛ وذلك عن طريق عدة أسس جعلتها تؤتى ثمارها، التي تتمثل في الاهتمام بالجانب التكنولوجي المتفوق في كل نواحي الحياة، سواء عن طريق نقله من الخارج أم ابتكاره في الداخل، والارتقاء بالتعليم لينافس أكثر دول العالم تقدماً، فالارتقاء بالتعليم هو مفتاح التفوق النوعي، بالإضافة إلى ذلك الانفتاح الإيجابي على العالم الخارجي؛ وذلك ليأتي العالم إلى سنغافورة في الوقت نفسه الذي تذهب هي إليه[14].
وجود قيادة ذات رؤية بعيدة المدى تؤمن بمشاركة الجميع، ملتزمة بنهج الإصلاح واختيار القيادات الوسطى الإشرافية والتنفيذية القادرة على فهم محاور الإصلاح وتعبئة الموارد المادية والبشـرية لتنفيذ هذه البرامج.
جعل التعليم محور عملية الإصلاح؛ لذا كان الاهتمام بالتعليم بجميع مراحله وبناء جيل مسلح بالعلم والمعرفة.
بناء شراكة فعّالة بين الحكومة والمجتمع والقطاع الخاص؛ لتحقيق أهداف التنمية وغاياتها، فهم شركاء في صنع القرار وتطبيق السياسات العامة.
تطوير نظم إدارة الموارد البشـرية بالخدمة المدنية؛ لتصبح أكثر احترافية وابتكاريه، ومرتكزة على مبدأ الجدارة والكفاءة في التعيين والترقية.
ضرورة وجود إرادة سياسية تؤمن بمواجهة الفساد وتمثل قدوة في إتباع السلوك النزيه وشمولية قوانين مكافحة الفساد.
تطبيق مبدأ التجربة والخطأ، حيث استطاع «لي كوان» وحكومته باحترافية تجريب العديد من الحلول لأزمات سنغافورة الوجودية، من نقص الموارد والمياه وصغر المساحة والبطالة، عن طريق تنفيذ عدد من السياسات وإعادة تقييم آثارها والرجوع عنها أو تعديلها إذا لم تتوافق هذه الآثار مع النتائج المرجوة سلفًا من هذه السياسات.